فصل: مسألة أعطى رجلا حناطا دينارا في أربعة آصع على أن يعطيه في كل يوم مدا من حنطة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة يكون له على الرجل عشرة دنانير من سلف أو بيع إلى أجل فحل الأجل:

ومن كتاب أوله الشريكين:
وسألت مالكا: عن الرجل يكون له على الرجل عشرة دنانير من سلف أو بيع إلى أجل، فحل الأجل، فيلزمه بحقه فيعسر به، فيعرض له رجل آخر على الذي له الحق أن ينظره على أن يسلفه عشرة دنانير؛ قال مالك: إن كان الذي يعطى يكون له على الذي له الحق فلا خير فيه، وإن كان قضى عن الذي عليه الحق سلفا منه ليس له فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إن ذلك لا يجوز إذا لم يكن ذلك قضاء عن الذي عليه الحق سلفا منه له؛ لأنه تسلف الذي له الحق لغرض له في منفعة الذي عليه الحق، فهو سلف جر نفعا، إذ لا يحل السلف إلا أن يريد به المسلف منفعة الذي أسلفه خالصا لوجه الله خاصة، ولا لنفسه ولا لمنفعة من سواه.

.مسألة قال أعطني جملك ببكرين هذين فقال صاحب الجمل لا حتى تزيدني:

وقال مالك، في رجلين حضرا السوق ومع أحدهما بكران، ومع الآخر بعير مسن. فقال صاحب البكرين: أعطني جملك ببكرين هذين، فقال صاحب الجمل: لا حتى تزيدني؛ وقال الآخر: لا أزيدك شيئا، فقال رجل من الناس لصاحب البكرين: زده وهو لي بخمسة عشر دينارا؟ قال مالك: إن كان نقدا فإني أراه خفيفا، وإن كان إلى أجل فلا خير فيه؛ كأنه قال له: اشتره بعشرة، وهو لي بخمسة عشر إلى أجل، فلا خير فيه. قال ابن القاسم: وهو رأيي.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد مضت في رسم سلف، ومضى القول عليها مستوفى في رسم حلف ألا يبيع، فلا معنى لإعادة ذلك.

.مسألة أعطى رجلا حناطا دينارا في أربعة آصع على أن يعطيه في كل يوم مدا من حنطة:

ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية:
وسئل مالك: عن رجل أعطى رجلا حناطا دينارا في أربعة آصع على أن يعطيه في كل يوم مدا من حنطة؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: إجازة مالك لهذا ينحو إلى أحد قوليه في إجازة السلم إلى اليومين والثلاثة؛ لأنه إذا قبض كل يوم مدا من ثاني يوم سلمه، فقد قبض جل ما سلم الدينار فيه قبل أن يمضي من الأمد ما تختلف فيه الأسواق.

.مسألة بيع مصحف فيه فضة وإن كانت يسيرة بدنانير إلى أجل:

قال مالك: لا يباع مصحف فيه فضة، وإن كانت يسيرة بدنانير إلى أجل.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على معنى قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة وغيرها، وربيعة يجيز بيعه بالفضة إلى أجل إذا كانت الفضة التي فيها أقل من الثلث، قياسا على جواز بيعه بالفضة نقدا، وهو مذهب ابن الماجشون. وقول سحنون: يبيعه بالدنانير إلى أجل- أجوز عندهم.

.مسألة السلم في الخرفان:

قال مالك: لا بأس بالسلم في الخرفان إذا كانت على صفة معلومة.
قال محمد بن رشد: هذا ما لا اختلاف في المذهب أن السلم جائز في الحيوان والعروض، خلافا لأبي حنيفة في قوله: إن السلم والقرض في الحيوان لا يجوز؛ ولأهل الظاهر في قولهم: إن السلم لا يجوز فيما عدا المكيل والموزون.

.مسألة يباع القمح في أندره بعدما يحصد في تبنه:

وسئل مالك: هل يباع القمح في أندره بعدما يحصد في تبنه؟ قال: لا أرى أن يباع، وهذا من الغرر، وما يدريه ما فيه. قال محمد بن رشد: يريد: وهو في تبنه بعدما يحصد ويدرس، وأما بيعه في أندره وهو زرع قبل أن يدرس فذلك جائز؛ لأنه من بيع الجزاف الجائز؛ لأنه يحزره ويرى سنبله، ويعرف قدره، فيجوز كما يجوز بيعه وهو في فدانه قبل أن يحصد، بل هو أجوز؛ لأن إحاطته به إذا رآه مجتمعا محصودا، أكثر من إحاطته به إذا رآه قائما في فدانه قبل أن يحصد.
وقد قيل: إن ذلك لا يجوز، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي؛ وقد تُئُوِّلَتْ هذه الرواية على ذلك، والصحيح ما تأولناها عليه؛ فبجواز ذلك قال مالك في رواية ابن نافع وأشهب عنه، وقد نص في كتاب ابن الجلاب على ما قلناه، قال: ويجوز أن يباع الزرع قائما إذا يبس وبعد أن يحصد حزما، ولا يجوز بيعه بعد أن يدرس في تبنه، وبالله التوفيق.

.مسألة التجار يشترون من الزارعين وينقدونهم ذهبهم قبل أن يفرغوا من الحصاد:

ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات:
وسئل مالك: عن التجار يخرجون في إبان الحصاد فيشترون من الزارعين والحصادين وهم على حصادهم، وينقدونهم ذهبهم وهم يقيمون في الحصاد خمسة عشر يوما ونحوها قبل أن يفرغوا وقد نقدوهم ذهبهم؟ قال: أرجو أن يكون إذا كان قريبا خفيفا. فقلت له: يا أبا عبد الله خمسة عشر يوما ونحوها؟ قال: إذا كان قريبا فأرجو أن يكون خفيفا، وكره أن يحد فيه حد، وكأني رأيته يخففه.
قال محمد بن رشد: يريد إذا اشترى منه كيلا مسمى أو اشتراه كله، كل قفيز بكذا، على ما في الجعل والإجارة من المدونة؛ وإنما جاز أن يتأخر ذلك إلى هذا المقدار، لحاجة البائع إلى المهلة في عمله؛ ولو كان الشراء بعد درس الطعام وتصفيته، لم يجز أن يتأخر الكيل والقبض فيه إلا اليوم واليومين ونحوهما، ولم يجز أكثر من ذلك، إذ لا يجوز شراء سلعة بعينها على أن يتأخر قبضها إلا اليوم واليومين والثلاثة ونحو ذلك.

.مسألة سلف رجلا في مائة صاع مضمونة إلى أجل مسمى:

وسئل مالك: عن رجل سلف رجلا في مائة صاع مضمونة إلى أجل مسمى، فلما حل الأجل جاءه يتقاضاه فقضاه خمسة آصع، ثم أعسر بما بقي؛ فلما ألح عليه يتقضاه، قال له: أقلني وأرد عليك طعامك؛ قال: لا بأس به، فقيل له: يا أبا عبد الله، فإنه قد كان قضاه خمسين صاعا ثم سأله الإقالة على أن يرد عليه طعامه، قال: لا خير فيه؛ فقيل له: يا أبا عبد الله، لِمَ، أليس هو مثله؟ قال: لا، ذلك يسير، وأرجو- إن شاء الله- ألا بأس.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة يدخلها بمجموع البيع والإقالة، أسلفني وأسلفك؛ لأن ما رد المسلم من الطعام إلى البائع فكأنه أسلفه إياه؛ والثمن الذي رد البائع إلى المسلم، كأنه أسلفه إياه أيضا؛ فاستخف ذلك في اليسير، إذ بعد عنه أن يكونا قصدا إلى ذلك؛ ومنع منه في الكثير لقوة التهمة عنده فيه، ولو أقاله مما بقي، لما جاز في القليل ولا في الكثير؛ لأنه يدخله البيع والسلف، فالمكروه فيه أشد، لنهي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيع وسلف.

.مسألة باع قمحا بدينار فأتى بَيِّعُهُ فوجد عنده تمرا فاشترى منه بدينار تمرا:

ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت:
وسئل: عن رجل باع قمحا بدينار فأتى بَيِّعُهُ فوجد عنده تمرا فاشترى منه بدينار تمرا، ثم إنه لقيه بعد ذلك، فقال: إن لي عليك دينارا ولك عَلَيَّ دينار، فقاضني، قال مالك: لا أحبه، ولكني أرى أن يرد التمر الذي أخذ منه؛ قال ابن القاسم: لأنه إذا قاضاه كان قد قبض من ثمن الطعام طعاما.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يرد التمر الذي أخذ منه صحيح على أصله فيمن باع سلعه بثمن إلى أجل، ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن نقدا، أنه يفسخ البيع الثاني ويثبت البيع الأول؛ إلا أن تفوت السلعة فيفسخ البيعان جميعا على الظاهر من مذهب الذي قد تكلمنا عليه في رسم حلف ليرفعن أمرا أو في هذه المسألة، يقدر على رد التمر أو مثله، فلا يفسخ إلا البيع الثاني، ويأتي على مذهب ابن الماجشون في فسخ البيعتين جميعا أن يفسخ بيع الحنطة جميعا أيضا.
وقال ابن المواز: تفسخ المقاصة فقط، يأخذ منه الدينار ثم يرده إليه، وهذا لا معنى له؛ لأنه إذا أخذه منه ثم رده إليه في مقامه ذلك، فكأنه لم يأخذه منه، وقد حصلت المقاصة بينهما. وقد قيل: إنما قال ذلك محمد؛ لأنه لم يتهمهما على أنهما عملا ذلك؛ ولو اتهمهما لفسخ بيع الحنطة أيضا، وهو تعليل فاسد؛ لأنه لو لم يتهمهما على ذلك، لأجاز المقاصة بينهما؛ لأن الاقتضاء من ثمن الطعام طعاما إنما يحرم إذا عملا على بيع طعام بطعام إلى أجل، فلا يفسخ إذا عثر عليه إلا من باب التهمة، والحكم بالمنع من الذرائع؛ وإذا اتهما فلا يصح، إلا أن يفسخ بيع التمر كما قال مالك، أو تفسخ البيعتان جميعا على قول ابن الماجشون.

.مسألة اشترى من رجل تمرا جزافا ولم ينتقد ثمنه:

وسئل مالك: عمن اشترى من رجل تمرا جزافا ولم ينتقد ثمنه، ثم يشتري البائع منه كيلا أكثر من الثلث؟ قال مالك:
لا يجوز له أن يشتري منه أكثر من الثلث كيلا نقدا ولم ينتقد، وإن اشترى إلى أجل، فلا يجوز له أن يشتري منه دون الثلث بنقد، قال سحنون: ولا شيئا منه بنقد؛ قال ابن القاسم: قال مالك: وإن تفرقا فلا يجوز له أن يشتري منه أقل من الثلث بنقد ولا بغير نقد، وإنما يجوز له أن يشتري منه أقل من الثلث إذا لم يتفرقا بغير نقد.
قال محمد بن رشد: الأصل في هذه المسألة إجماعهم على أن من باع جزافا فلا يجوز له أن يستثني منه كيلا إلا الثلث فأقل، فإذا باع الرجل تمرا جزافا ولم يستثن منه شيئا، فلا يجوز له أن يشتري منه إلا ما كان يجوز له أن يستثنيه منه، وذلك الثلث فأقل، فإن اشترى منه أكثر من الثلث لم يجز نقدا وقاصه ولم ينقد؛ وإن اشترى منه الثلث فأقل مقاصة من الثمن جاز، وإن اشترى ذلك منه بنقد ولم يقاصه، جاز إن كان البيع بالنقد ولم يكن إلى أجل، وهو دليل قوله إنه لا يجوز له أن يشتري منه أكثر من الثلث كيلا نقد أو لم ينتقد؛ لأن مساواته بين أن ينقد أو لا ينقد إذا اشترى أكثر من الثلث، يدل على أن ذلك يفترق إذا اشترى أقل من الثلث؛ ومعنى ذلك إذا لم يكونا من أهل العينة؛ لأن أهل الصحة لا يتهمون إلا في بيوع الآجال؛ وكذلك لو غاب المبتاع على الطعام، لجاز أن يشتري منه أقل من الثلث نقدا ومقاصة إذا لم يكونا من أهل العينة، ولو كانا من أهل العينة، لم يجز أن يشتري منه شيئا بعد الغيبة عليه لا نقدا ولا مقاصة؛ وأما إن كان باع منه التمر أولا بثمن إلى أجل، فلا يجوز له أن يشتري منه أكثر من الثلث على حال، ويجوز له أن يشتري منه أقل من الثلث مقاصة من الثمن، ولا يجوز ذلك نقدا؛ لأنه إن اشترى ذلك بالنقد، دخله البيع والسلف؛ لأنه إذا حل الأجل يأخذ منه جميع الثمن، فيكون ما قابل منه الثمن الذي نقده في الطعام الذي اشتراه منه قضاء منه، كأنه أسلفه إياه وبقيته ثمنا للطعام الذي صار إليه؛ ويدخله أيضا طعام وذهب بذهب إلى أجل، وهذا ما لم يغب المبتاع على الطعام؛ وأما إن غاب على الطعام، فلا يجوز له أن يشتري منه شيئا قليلا ولا كثيرا نقدا ولا مقاصة؛ لأنه إن كان نقدا كان بيعا وسلفا دنانير وطعام، وإن كان مقاصة، كان بيعا وسلف طعام.

.مسألة باع خمسة عشر جلدا كل جلد بدينار إلا درهما إلى أجل:

وقال مالك، في رجل باع خمسة عشر جلدا، كل جلد بدينار إلا درهما إلى أجل، فلما وجب البيع بينهما، قال له الرجل: تعال احسب هذا؛ قال: هذه أربعة عشر دينارا، قال: فاكتب بيني وبينك كتابا بأربعة عشر دينارا؟ فكره هذا البيع، وقال: لا خير فيه.
وفيه وجه آخر من مكروه البيع؛ قال ابن القاسم: وذلك لو أنه جاز، أخذ منه عند الأجل خمسة عشر درهما، وأعطاه خمسة عشر دينارا، فصار صرفا متأخرا، وإنما يجوز من هذا إلى أجل الدرهم والدرهمين الذي لا يقع فيه غرر في خفض صرف ولا في ارتفاعه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم البيوع الأول من سماع أشهب من كتاب الصرف.

.مسألة يبتاع من الرجل طعاما إلى أجل فيأتيه عند الأجل فيقتضي منه نصفه ويبقى نصفه:

ومن كتاب أوله الشجرة تطعم بطنين في السنة:
وسئل مالك: عن الرجل يبتاع من الرجل طعاما إلى أجل، فيأتيه عند الأجل فيقتضي منه نصفه ويبقى نصفه، ثم يأتي بعد ذلك فيطلبه ببقية حقه، فيقول ما عندي قضاؤك، ولكن إن أحببت أن ترد علي ما أعطيتك وأرد ذهبك كلها فعلت. فقال: لا خير فيه، وقال: أكرهه، وسمعته قبل ذلك يقول: إن كان الذي اقتضى منه يسيرا مما له عليه، لم أر بذلك بأسا أن يرده ويأخذ رأس ماله.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة فوق هذا في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات والقول فيها، فلا وجه لإعادته.

.مسألة يبيع الرجل نصف أندره جزافا:

من سماع أشهب وابن نافع من كتاب البيوع الأول قال أشهب، وسألته: أيصلح أن يبيع الرجل نصف أندره جزافا؟ قال: نعم في رأي.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة هاهنا في بعض الروايات، والمعنى فيها: أن يبيعه نصفه جزافا وهو في سنبله قبل أن يدرس؛ لأنه إذا جاز بيع جميعه قبل أن يدرس، جاز بيع نصفه، وأما بعد أن يدرس فلا يجوز على حال، وقد مضى بيان هذا، والقول فيه قبل هذا في رسم اغتسل على غير نية من سماع ابن القاسم.

.مسألة يمنعون أن يباع الطعام حتى ينقل من مكانه:

قال: وسألته عن قول عبد الله بن عمر كان يبعث إلينا رجال يمنعونا أن نبيع طعاما ابتعناه حتى ننقله من ذلك المكان، أعليه العمل؟ فقال: قد جاء هذا الحديث. قلت له: فأحب إليك أن يؤخذ به على وجه الاحتياط؟ قال: أحب إلي أن يؤخذ به فيما اشترى جزافا، لا يباع حتى ينقل من مكانه، فأما ما اشتري بكيل، فلم يأت هذا الحديث فيه.
قال محمد بن رشد: «نهى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ عن بيع الطعام قبل أن يستوفى»، محمول عند مالك وعامة أصحابه على ما اشتري كيلا أو وزنا؛ لأنه لا يدخل في ضمانه حتى يستوفيه بالكيل أو الوزن، فإذا باعه قبل أن يستوفيه، كان قد ربح فيما لم يضمن؛ وهذا هو المعنى عند مالك في «نهي النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ عن بيع الطعام قبل أن يستوفى» بدليل «نهيه عَلَيْهِ السَّلَامُ عن ربح ما لم يضمن» وإنما لم يحمل «نهي النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ عن ربح ما لم يضمن» على عمومه في الطعام وغير الطعام، وقصره على الطعام؛ لأنه عموم عارضه عموم القرآن، قول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقوله عز وجل: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]، يريد: التجارة في مواسم الحج على ما جاء في تفسير ذلك، فوجب ألا يخرج من هذا العموم شيء إلا بيقين، وهو الطعام الذي قد نص عليه النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ دون ما سواه من المكيل أو الموزون، لاحتمال أن يكون مراد النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ بنهيه عن ربح ما لم يضمن، ما نهي عنه من بيع الطعام قبل أن يستوفى، فالطعام المصبر خارج عن هذا عند مالك؛ لأنه يدخل بالعقد في ضمان المشترى؛ إلا أنه استحب في هذه الرواية ألا تباع الصبرة المشتراة حتى تنقل من موضعها، لحديث عبد الله بن عمر المذكور، ولم يوجب ذلك، لاحتمال أن يكون معناه الندب حماية للذريعة.
وفي المدنية لمالك أن معناه فيما بيع بالدين. ووجه ذلك: أن الصبرة وإن دخلت بالعقد في ضمان المشتري، فلم يدخل ثمنها في ضمان البائع إذا كان مؤجلا لم يقبض، ففيه شيء من معنى الضمان، وفيه نظر؛ وابن حبيب يحمل «نهي النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ عن ربح ما لم يضمن» على عمومه في كل ما يوزن من الطعام وغيره، وهو مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة وجماعة سواه؛ وقول مالك أصح على ما بيناه.

.مسألة باع من رجل سلعة ودفعها إليه وقبضها بمائة دينار إلى أجل سنة:

قال: وسئل مالك: عمن باع من رجل سلعة ودفعها إليه وقبضها بمائة دينار إلى أجل سنة، فأقامت عنده بعد أن قبضها حتى حدث بها عيب عور أو عرج أو قطع أو أمر، حتى علم أنهما لم يعملا القبيح؛ أيجوز لبائعها أن يشتريها بأقل مما باعها به وينقده ثمنها بعدما حدث فيها هذه الأشياء؟
فقال: يبيعها بالدين ويشتريها بالنقد أقل منه، لا يصلح هذا ولا يؤمن الناس على مثله؛ ولو جاز هذا لهذا، لقال آخر في مثل هذا: فقد نقصت، فقد مرضت؛ لا يجوز هذا ولا يمكن الناس منه؛ وقال سحنون مثله، وهو خير من رواية ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: رواية ابن القاسم التي أشار إليها سحنون وقعت في كتاب ابن المواز: قال ابن القاسم: عن مالك في الدابة أو البعير يبتاعها بثمن إلى أجل فيسافر عليها المبتاع إلى مثل الحج وبعيد السفر، فيأتي وقد أنقصها، ثم يبتاعها منه بأقل من الثمن نقدا، فلا يتهم في مثل هذه أحد ولا بأس به، وكذلك الثوب يلبس فيبلى؛ وذهب كل واحد من ابن القاسم وأشهب في هذه المسألة إلى ما روي عن مالك فيها، وذلك من قوليهما في كتاب الرواحل والدواب من المدونة: أجاز ابن القاسم فيها أن يستقيل الكرى المتكارى فيقيله بزيادة بعد أن قبض الكراء وغاب عليه إذا كانا قد سارا من الطريق ما يسقط التهمة عنهما؛ ولم يجز ذلك أشهب قبل الركوب ولا بعده، ورأى التهمة بينهما باقية على حالها، وقول ابن القاسم وروايته عن مالك أظهر، والله أعلم؛ لأن ذلك ليس بحرام بين، وإنما يفسخ حماية للذرائع، ومن ناحية التهمة؛ وأكثر أهل العلم لا يقولون بذلك، فإذا ظهر ما يضعف التهمة انبغى ألا تحقق، وبالله التوفيق.

.مسألة باع من رجل طعاما بذهب إلى أجل:

وسئل: عمن باع من رجل طعاما بذهب إلى أجل، ثم باع تلك الذهب من رجل غيره بطعام مثل طعامه أو طعام غيره، ويحيله بالذهب على غريمه، فقال بعد إطراق: لا بأس بذلك إذا صح كان مثل طعامه، أو أقل منه، أو أكثر، أو غير طعامه طعام ليس من صنف طعامه الذي باع منه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه لا بأس بذلك، إذ ليس فيه وجه من وجوه المكروه؛ لأنه باع طعاما من رجل، وأخذ بالثمن طعاما من غيره نقدا؛ فجاز ذلك ولم يدخله اقتضاء من ثمن الطعام طعاما، إذ لم يأخذ الطعام من الذي باعه الطعام، وإذا بين.

.مسألة باع تمر حائطه بمائة دينار وعشرين دينارا:

قال: وسئل: عمن باع تمر حائطه بمائة دينار وعشرين دينارا، فقضاه الغريم منها بخمسة عشر دينارا رطبا وتمرا من حائطه؛ فلما استجدت التمرة في رؤوس النخل، اشتروا ذلك كله منه في رؤوس النخل بسبعين دينارا مما لهم عليه، ويتبعونه ببقية المائة والعشرين التي كانت لهم عليه؛ فقال مالك له- وهو المبتاع-: اشتريت منهم جزافا وهو في رؤوس النخل، وبعتهم كذلك في رؤوس النخل؛ قال: نعم؛ فأطرق فيها مالك طويلا، ثم قال: لا أرى بذلك بأسا إذا كان التمر الذي تأخذون بالسبعين الدينار الآن، قد استجد ويبس؛ فأما لو لم يكن استجد فلا خير فيه، وذلك أنه دين بدين.
قال: وسألته عن الذي يبيع تمر حائطه رطبا بمائة وعشرين دينارا فيبس في رءوس النخل، ثم يشتريه منه بسبعين دينارا مما له عليه؛ قال: أنا أكرهه، ومما كرهته له أنه باعه رطبا وأخذه تمرا، والرطب بالتمر لا يصلح؛ قلت له: إنه لم يأخذ تمرا من غير حائطه الذي باعه، إنما أخذ حائطه بعينه تمرا، فسكت وكأنه كرهه، قال: وسئل: عن الذي يبيع تمر حائطه بمائة دينار إلى الجداد، فإذا كان الجداد اشتراه بعشرة دنانير ومائه دينار، وهو في رءوس النخل؛ فقال: لا خير فيه. فقيل له: فلو باعه إياه بذلك، ثم لم يقم إلا يومين أو ثلاثة حتى اشتراه بعشرين ومائة؛ قال: ولا خير فيه أيضا.
قال: وسألته: عن الذي يبيع تمر حائطه رطبا، فيبس في رءوس النخل ويصير تمرا، فيقول البائع: أنا آخذ نخلي بحقي؛ فقال: لا خير فيه؛ لأنه أعطاه رطبا وأخذ تمرا، والرطب بالتمر لا يصلح يدا بيد، فكيف إلى أجل؛ فقلت له: إنه رطبه بعينه صار تمرا في رءوس النخل، فقال: لا يصلح وإن كان بعينه؛ فقيل له: أرأيت لو أفلس الغريم وقد صار الرطب تمرا في رءوس النخل، أيكون له أن يأخذه بدينه؟ فقال: ذلك له، إلا أن يشاء الغرماء أن يأخذوه ويعطوه دينه، وإن أحب هو أن لا يأخذه ويحاصهم بدينه، فذلك له؛ وليس هذا مثل الذي يشتري منه هو متعمدا، إنما هو على غير وجه التبايع إنما أعطاه إياه القضاء؛ أرأيت العبد الآبق، أيجوز لأحد أن يشتريه؟ فقد يجوز لصاحبه الذي باعه أن يقول لا أحب أن أحاصص الغرماء وأنا أطلب عبدي، فذلك له؛ فإن وجده، كان أحق به، وإن لم يجده، رجع فحاص الغرماء؛ لأنه إن تلف أو مات، فهو من الذي عليه الحق.
قال محمد بن رشد: أجاز مالك أولا لمن باع تمر حائطه رطبا بدين إلى أجل، أن يأخذه إذا استجد وصار تمرا ببعض الثمن؛ وكذلك لو أخذه بجميع الثمن، أو بأكثر منه، ومنع من ذلك كله آخرا إلا في التفليس، فإنه يجوز له أن يأخذه ويترك محاصة الغرماء؛ وقد روى أشهب أيضا عن مالك أنه لا يجوز له أن يأخذه في التفليس؛ فيتحصل له في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: جواز ذلك في التفليس وغير التفليس، وهو قوله أولا؛ لأنه إذا جاز ذلك في غير التفليس، فأحرى أن يجيزه في التفليس. والثاني: أن ذلك لا يجوز في التفليس ولا في غير التفليس، وهو الذي حكاه عنه ابن حبيب؛ لأنه إذا لم يجز ذلك في التفليس، فأحرى أن لا يجيزه في غير التفليس. والثالث: الفرق بين التفليس وغير التفليس، والقول بإجازة ذلك في التفليس وغير التفليس أظهر الأقوال؛ لأن الاقتضاء من ثمن الطعام طعاما ليس بحرام لذاته، وإنما يمنع منه مخافة أن يكون قد عمل معه على أن يبيع منه طعاما بطعام إلى أجل، وحماية للذرائع، فإذا أخذ الثمر الذي باع منه بعينه بعد أن صار تمرا واستجد، وجب أن يجوز، إذ قد صح بيعه بالسلامة من فسخ الدين في الدين، ومن أن يعطي طعاما في طعام غيره إلى أجل. ووجه المنع من ذلك: أنا نمنعه منه حماية للذرائع؛ لأنا نتهمه أن يكون قد عمل معه على أن يأخذ منه في الرطب الذي أعطاه تمرا إلى أجل، فأعطاه لما حل الأجل بالتمر الذي شرط عليه تمر حائطه، ووجه الفرق بين التفليس وغير التفليس: أن التفليس يرفع التهمة؛ لأنه أمر طارئ لم يعلماه؛ وأما الذي باع عبدا بثمن إلى أجل ففلس المشتري وقد أبق العبد، فقال هاهنا: إنه مخير بين أن يحاصص الغرماء، وبين أن يطلب العبد؛ فإن وجده كان أحق به، وإن لم يجده رجع فحاص الغرماء؛ وفي ذلك من قوله نظر، إذ لا حد لوقت طلبه يجب له بالبلوغ إليه الرجوع إلى محاصة الغرماء، أو الرجوع على كل واحد منهم بما كان يجب له في المحاصة لو حاصهم أن يحاصوا قبل أن يجده؛ وقال في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب المديان: إنه إن رضي بطلب العبد وترك المحاصة، فليس له أن يرجع إليها؛ إن لم يجد العبد، كما أنه إذا اختار محاصة الغرماء، فليس له إن وجد العبد أن يأخذه ويرد ما صار له في المحاصة، وقال أصبغ: ليس إلا المحاصة، ولا يجوز له أن يتركها ويتبع العبد؛ لأنه دين بدين وخطار، وهو أظهر الأقوال، وبالله التوفيق.

.مسألة سلف رجلا خمسة وعشرين دينارا فقضاه منها عشرين وبقيت له عليه خمسة:

ومن كتاب أوله مسائل كراء وبيوع:
وسئل مالك: عمن سلف رجلا خمسة وعشرين دينارا، فقضاه منها عشرين، وبقيت له عليه خمسة؛ فطلب عينه فلم يجدها، فباعه الذي له عليه الخمسة دنانير بيعا إلى سنة، ثم وقع في نفسه أنه يعطيه الخمسة من ثمن ما باع منه، أيأخذها؟ قال: لا يأخذها، وأصل بيعها لا خير فيه، يبيعه وله عليه دين؛ فقيل له: إنه إنما كانت سلفا حالة، فقال: سواء كان سلفا أو ثمن متاع، ولكن إن ترك الخمسة إلى السنة، فأرجو أن لا يكون بذلك بأس.
قال محمد بن رشد: الذي يدخل هذه المسألة من المكروه نصا هي الربا المحرم بالقرآن- وهو التأخير بالدين على أن يزيده فيه، وذلك أنه إذا كان له عليه في التمثيل عشرة مثاقيل حالة من قرض أو بيع، فباعه سلعة قيمتها عشرة مثاقيل باثني عشر مثقالا إلى أجل، فقضاه حقه من ثمنها، كانا الذي يقضيه إنما هو ثمن سلعة، كأنه باعها له وأسلم إليه الثمن وصار إن أخره بالعشرة التي كانت قد حلت له عليه، على أن يأخذ منه بها عند الأجل اثني عشر؛ وقد كره ابن القاسم وابن دينار في المدنية إذا كان لرجل دين حال على عبد رجل أن يأخذ من سيده شيئا بعينه إلى أجل، يستعين به في قضاء العبد؛ لأن العبد وماله لسيده، وقوله ولكن إن ترك الخمسة إلى السنة، فأرجو أن لا يكون به بأس، معناه: أنه تركها إلى السنة بغير شرط، ولو كان شرط لم يجز، ودخله البيع والسلف، قاله ابن المواز، هو صحيح.

.مسألة أسلف مائة إردب قمحا فأخذ تسعين إردبا وعشرة أرادب شعيرا قبل محل الأجل:

وسئل ابن القاسم: عمن أسلف مائة إردب قمحا، فأخذ تسعين إردبا وعشرة أرادب شعيرا أو دقيقا قبل محل الأجل؟ قال: فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة؛ لأن الطعام من القرض جائز أن يباع قبل أن يقبض؛ فإذا كانت التسعون الأرادب التي قبض مثل المائة التي له لا أفضل ولا أدنى، جاز أن يأخذ في المجلس بالعشرة الباقية- عشرة أرادب شعيرا أو عشرة أرادب دقيقا؛ لأنها مبادلة في الوجهين؛ وجاز له أن يأخذ بها تمرا أو ما شاء؛ لأن البيع فيها جائز، ولو كانت التسعون الأرادب أدنى من حقه أو أفضل، لم يجز له أن يأخذ في المجلس بالعشرة الباقية شعيرا ولا دقيقا ولا شيئا من الأشياء على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك؛ ويأتي في ذلك على قول أشهب في كتاب الصرف من المدونة تفصيل، سنذكره في رسم أوصى من سماع عيسى- إن شاء الله.
ولو انصرف عنه ثم لقيه في مجلس آخر، لجاز له أن يأخذ منه بها شعيرا أو دقيقا بمثل كيلها أو تمرا أو ما شاء من العروض والعين. وحمل أبو إسحاق التونسي هذه المسألة على أن المائة الأردب من سلم، فقال: هذا جواز اقتضاء الدقيق من القمح في السلم، وليس ذلك بصحيح؛ لأنه إنما قال: وسئل: عمن أسلف مائة إردب ولم يقل أسلف في مائة إردب، والله أعلم.